ماذا تعني عندما تقول “نعم”؟!
هل يكفي المعنى اللغوي لكلمة ما لفهم معناها؟!
الترجمة فن يجب أن لا يتقن صاحبه لغة الأصل ولغة الهدف فقط، بل من المطلوب أن يعرف الدلالات اللفظية المختلفة للكلمات والمباني اللغوية المستخدمة في كل من لغة المصدر واللغة المترجم اليها والخلفيات الحضارية والثقافية ذات الصلة، ومتطلبات أخرى.
عندنا الخبر الجيد يثلج صدورنا بينما عند الإنجليز يدفئ صدورهم (warms the chest).
في بعض المناطق يستعملون كلمة “ترك” بمعنى تراكتور، بينما القاضي أو المترجم الذي يعرف اللغة الإنجليزية يمكن أن يفسرها “شاحنة” (Truck)، فمن يقدم دعوى بادعاء أنه سقط عن تراكتور (“ترك”) وفي المحكمة يشهد بلغته العامية أنه سقط عن “ترك” ويترجم كلامه كأنه سقط عن شاحنة (“ترك”)، ربما حسب كمن حصل تناقض في كلامه مسقط لدعواه.
والقصة التالية مثال على مخاطر الخطأ في الترجمة:
وقف المتهمُ مرتعدَ الفرائصِ أمام القاضي،
كان القاضي يهوديًا والمتهم عربيًّا من قرية جسر الزرقاء، تلك القرية الملاصقة لشاطئ البحر الأبيض المتوسط، وهي القرية الساحلية التي بقي أهلها في أرضهم رغم أنف العصابات الإرهابية سنة 1948 أبان نكبة تشريد شعبنا الفلسطيني.
لم يكن القاضي يتكلم العربية، والمتهم لا يتكلم اللغة العبرية. إذن لا بد من الترجمة.
في تلك السنين تعاملت محكمة الصلح في الخضيرة، مع مترجم غير مؤهل رسميا ولا جامعيا كان يُدعى “أبا سمير”. و”أبا سمير” هذا هو يهودي عراقي الأصل، هاجر إلى البلاد على كبر ووجد له مصدر رزق في الترجمة من وإلى العربية، فكنتَ تجده في المحكمة كل يوم وطوال اليوم يجلس في الكافيتريا أو على المقاعد المعدة للجمهور ويجاذب الناس والمحامين أطراف الحديث حتى ينادى عليه للترجمة عند اللزوم.
وكان أبا سمير دمث الخلق، دائم الابتسامة، وكأن لبلد منشأه العراق تأثير طاغ على سلوكياته، ولم تبد عليه الصفات العنصرية المقيتة الملازمة لكثير من أبناء عمومتنا تجاه العرب. وكان يجتهد في فهم اللهجة الفلسطينية القروية قدر المستطاع، وفي نقل معنى الكلام من والى المتهم بشكل صحيح.
ولكن في هذا اليوم خانته فطنته !
توجه القاضي للمتهم قائلا: سوف اقرأ لك لائحة الاتهام لسماع ردك عليها، إن النيابة تتهمك بانك في تاريخ _____ قمت بضرب زوجتك ..
وسكت القاضي ليفسح المجال للمترجم ليقوم بالترجمة.
وقام أبو سمير بعمله فترجم كلام القاضي للمتهم. وما أن انهى أبو سمير كلامه، حتى سارع المتهم قائلا “نعم” قاصدا بها “استمر”، غير أن أبا سمير قام بترجمة الكلمة حرفيا إلى اللغة العبرية، مما غير معنى كلام المتهم بشكل كامل: فالمتهم أراد أن يقول “استمر” إلا أن الترجمة معناها اعتراف بما تلاه القاضي!!
وكاتبة الضبط طبعا تدخل إلى الحاسوب ما يقوله المترجم.
واستمر القاضي بقراءة لائحة الاتهام: أنت متهم بأنك قمت بضربها في داخل بيتكم، فهربت منك، فقمت باللحاق بها إلى ساحة المنزل.
المتهم: “نعم” قاصدا بها “استمر”
أبو سمير: “نعم” بترجمة حرفية.
القاضي: أنت متهم بأنك ضربتها بيديك، ورفستها برجلك، ثم ألحقت رأسها ضربا بعصا خشبية
المتهم: “نعم” قاصدا بها “استمر”
أبو سمير: “نعم” بترجمة حرفية.
القاضي: يتهمونك بانك طرحتها أرضا على التراب ومزقت ثيابها
المتهم: “نعم” قاصدا بها “استمر”
أبو سمير: “نعم” بترجمة حرفية.
القاضي: يتهمونك بانك هددتها بالقتل وأقاربها
المتهم: “نعم” قاصدا بها “استمر”
أبو سمير: “نعم” بترجمة حرفية.
وكاتبة الضبط مواظبة على إدخال أقوال المترجم إلى الحاسوب.
وهنا طفح الكيل! ووقفت بالرغم من عدم وجود محام للمتهم، وقلت للقاضي أن واجبي كمحام تجاه المحكمة (“officer of the court”) يحتم علي أن أتدخل لمنع خطأ فادح يوشك على الحدوث إذ أن معنى ما ترجم أبو سمير للبروتوكول هو إقرار تلو الآخر من المتهم رغم اني وجميع المحامين العرب في القاعة فهمنا كلمات المتهم كطلب منه أن يستمر القاضي في تلاوة الاتهامات فقط لا غير.
وانبرى محامي النيابة معترضا على تدخلي شكلا وموضوعا، وقال أن كلام المتهم ترجم من قبل المترجم أبا سمير وليس هناك سبب أن تقبل المحكمة بتفسيري لأقوال المتهم المبني على تخمين صرف حسب قوله بينما الترجمة من قبل المترجم كانت لظاهر كلام المتهم.
ورأيت الحيرة في عيني القاضي فالترجمة الحرفية لأقوال المتهم صحيحة حتى حسب رايي من جهة، ومن جهة أخرى فان ما قلته منطقي جدا.
هل يفضل القاضي الترجمة الحرفية، الظاهر، أم حدس المحامي المعروف لديه والذي يثق في رأيه ؟
كل هذا دار في قاعة المحكمة أمام المتهم وهو “كالأطرش في الزفة”، لا يعي ما يقال وكأن الكلام يدور عن غيره، خاصة لأن أبا سمير ركز اهتمامه في النقاش الذي تطور ونسي أن يترجم مجرى الجلسة للمتهم !
وهنا قال أبو سمير: ما يقوله الأستاذ رياض منطقي والان أنا نفسي ارجحه، وللتأكد سأل أبو سمير المتهم عن مقصده وأجاب المتهم ما معناه أن حدسي أصاب كبد الحقيقة.
واقتنع القاضي.
ترى كم من رواد المحاكم كان ضحية لترجمة خاطئة؟
القصة حقيقية، بتصرف.